مقدمة
السَّيِّدَاتُ وَالسَّادَةُ
أَشْكُرُكُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ الكَرِيمَةِ، وَعَلَى إِتَاحَةِ هَذِهِ الفُرْصَةِ لأُشَاطِركُمْ بَعْضَ الأفْكَارِ الَّتِي عَنَتْ لِي وَأَنَا أُفَكِرُ في حَالِ عَالَمِنَا العَرَبِيّ وما آلَ إلَيْهِ مِنْ التَشتُّتِ والضَّيَاعِ.
إنَنَا نَلْتَقِي اليَوْمَ فِي فَتْرَةٍ مِنْ أَصْعَبِ الفَتَراتِ التي مَرَّ بِهَا عالَمُنَا العربي في عَصْرِهِ الحَدِيث، ولكنني ِأقولُ إنَّ أَغْلَبَ مَآسِينَا الَّتِي لا حَصْرَ لَهَا مِنْ صُنْعِ أَيْدِينَا، أَوْ عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ كَانَتْ نَتِيجَةَ جَهْلِنَا، بَلْ رُبَّمَا نَجِدُ الكَثِيرَ مِنَّا تَوَرَّط فِي أَنْ يَكُونَ طرفًا في الخِلافَاتِ الَّتِي وَرِثْنَاهَا، والتي كَثِيرًا مَا أَذكَيْنَا نيرانهَا، والتي نَدْفَعُ ثَمَنَهُا مِنْ وِجْدَانِنَا وَضَمَائِرِنَا.
كُلُّنَا تَقْرِيبًا يعْرِفُ هَذِهِ الحَقَائِقَ المُرَّةَ، وعلى الرغمِ أننا قَادِرونَ عَلَى وَصْفِ الدَّاءِ، وَتَشْخِيصِ المَرَضِ، فإننا نَخْشَى التَّصَدِّيَ لِلدَّوَاءِ وَالمُضِيَّ قُدُمًا فِي سَبِيلِ العِلاج.
وَكَمْ كُنْتُ أَوَدُّ أَنْ أَحْصُرَ الحَدِيثَ فِي تَفَاصِيلَ تَخُصُّ قضايا التَّعليمِ والتَّطَوُّراتِ الهائِلةَ الَّتي تَطْرَأُ عَلَيْهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُتْعَةٍ فِكْرِيَّةٍ وَتَجَسُّدٍ لآمَالٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ، وَلَكِنَّنِي أَجِدُ أَنَّ الوَاقِعَ العَرَبِيَّ الألِيمَ يَفْرِضُ نَفْسَه، لِمَا أَرَاهُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحَدٍّ ثَقَافِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى الفِكْرَ، وَإِلَى العِلْمِ... ولأنَنَا علينا تَشْخِيصُ المَأْزَقِ الحَالِي للخُرُوجِ مِنْهُ، ولأنَنَا لَنْ نَتَمَكَنَ مِنْ بِنَاءِ مُسْتَقْبلٍ أَفَضَل إلَّا عَلى أَسَاسٍ مِنْ الصَّرَاحَةِ والإصْلاحِ الجَاد.
فلا يُمكِنُني السُّكوتُ أمامَ ما آلَ إِلَيْهِ مَصِيرُ شُعُوبِنَا العَرَبِيَّةِ وَحَالُ دُوَلِهَا، وَمَا نَرَاهُ مِنْ وَحْشِيَّةٍ بَشِعَةٍ فِي صراعاتٍ دموية، وَمَا يُحَاكُ مِنْ مُؤَامَرَاتٍ مِنْ دَاخِلِ وَخَارِجِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ لِبَاقِي عَالَمِنَا المُمَزَّقِ المُتَعَثِّر.
فتعالَوْا مَعِيَ فِي رِحْلَةٍ فِكْريَّةٍ لِنبحثَ معًا كَيفَ نَنتَقِلُ مِنْ الأَزَماتِ الحَالِيَّةِ إلِى مستقبلٍ وَاعِدٍ مُشْرِق.
فِلْنَبْدَأ مِن المدخَلِ السَّلِيمِ لِلخُرُوجِ مِنَ الأَزْمَةِ الحَاليَّةِ. وهو وُجَوبُ حَقْنِ الدماءِ، والتحَوُّلُ إلى تَبَادُلِ الحَدِيثِ بَدَلًا مِن قَصْفِ المَدَافِع، ثٌمَّ وجوب إطْلَاقِ عَنَانِ الخَيَالِ بَدَلًا مِنْ إطْلاقِ الرَّصَاص.
وَلَسْتُ مِنَ السذَاجَةِ حَتَّى أَتَصَورَ أنَّنا بمُجَرَدِ الدَّعْوَةِ لِلِّقاءِ بينَ المُتَصَارِعِين، ومِنْ وَراءِ المُتَصَارِعِين، سَوْفَ نُسْكِتُ المَدَافِعَ ونَفْتَحُ بَابَ التفَاهُمِ عَلَى مِصْرَاعَيْه، ولكِنَنَي مُتَأَكِدٌ من أنَ الخُطْوَةَ الأُولَى فِي مُوَاجَهَةِ هَذَا الوَضعِ المَأْسَوِي الذِي عمَّ أنحاءَ البِلادِ كُلِّهَا مِنْ لِيبْيَا إلَى السُّودَان إلَى جَنُوبِ السُّودَان إلَى الصُّومَال إلَى اليَمَنِ إلَى سُورْيَا إلَى العِرَاق، واسْتِمْرَارِ الاحْتِلالِ الإسَرَائِيلِي لِلأَرَاضِي العَرَبِيَّة، والاضطِرَابَاتِ فِي الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ الأُخْرَى التي تُعَانِي مِمَا يُحَاكُ ضِدَّهَا مِنْ مُؤْامَرَاتٍ، وغَيْرِها التي تَهْتَزُ رَكَائِزُهَا لِضَرَبَاتِ المَجْمُوعاتِ الإرهَابِيَّةِ التي لَا تَعْرِفُ خُلُقًا ولا دِينًا، وقَدْ رَسَمَتْ فِي مَواقِفَ وكِتَابَاتٍ أُخْرَى الطرِيقَ الذي أَحْسَبُهُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِنَا إلى حَقْنِ الدِّمَاءِ، وفَتْحِ بَابِ الحِوَارِ الجَادِ والمَوْضُوعِيِّ بَيْنَ الأَطْرَافِ السيَاسِيَّةِ المُتَصَارِعَةِ والقُوَى الإقلِيمِيةِ والدوّليَّةِ التي تٌسَانِدُ كُلَّ هذه الفَصَائِلِ المُتَقَاتِلَة...
ولَكِنَّ هَذا مُجَرَدُ تَحْضِيرٍ لِتَوَاجُدِ الظُرُوفِ المُوَاتِيَّةِ؛ لإعَادَةِ التَّفْكِير فِي المُسْتَقبَلِ العَرَبِيِّ المُشْتَرَك... فَقد كُنَّا نَقُولُ: "لا صَوْتَ يَعْلُو فَوْقَ صَوْتِ المَعْرَكَةِ" ... بَيْنَمَا نَجِدُ جُون آدمز وجُورج وَاشُنْطُن فِي سَنَةِ 1780 وحَرْبِ التحْرِيرِ الأَمْرِيكيةِ عَلَى أَشُدَّهَا يُؤَسِسُونَ أَكَادِيمِيَّةَ العُلُومِ والفُنُونَ الأَمْرِيكِيَّةَ في بُوسْطن، بَيْنَمَا يَأْتِي أبراهام لينكولن، فِي خِضَمِّ الحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ الأَمْرِيكِيةِ سَنَةَ 1863 ويُصْدِرُ التشْرِيعَاتِ لتَفْعِيلِ نِظَامِ التعْلِيمِ العَالِي فِي أَمْرِيكا، ويُؤَسِسُ أَكَادِيمِيَّةَ العِلُومِ بِوَاشُنْطُن ... إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَقَلَ جِدِيَّة فِي إدَارِةِ المَعَارِكِ والحُرُوب، ولَكِنَّهُم لم يَفْقِدُوا البَصَرَ فِي أَنَّ العِلْمَ وَالثَقَافَةِ ومَا يُمَثِّلَانه مِنْ قِيَمٍ، هُمَا الأَسَاسُ الذِي يَجِبُ عَلَى الشَّعْبِ أَنْ يَتَفَانَى فِي الدِفَاعِ عَنْهُ...
وَهَذِهِ فِي نَظَرِي هِيَ الرِسَالَةُ التِي تَبَنَّاهَا الرَّاحِلُ الكَبِيرُ قُسْطَنْطِين زريق حِينَ كَتَبَ عَنْ مَعْنَى النكْبَةِ مَرَتَيْنِ بَعْدَ نَكْبَةِ 1948 وَبَعْدَ هَزِيمَةِ 1967.
السيِّدَاتُ والسَّادَة:
إنَّ المَخْرَجَ الحَقِيقِيَّ لِلأَزْمَةِ العَرَبِيَّةِ لَنْ يَأْتِيَ بِمَعْرَكَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ نَاجِحَة، بَلْ إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى:
- تَجْدِيدِ الحُلْمِ العَرَبِيِّ العَظَيم.
- إعَادَةِ صِيَاغَةِ مَفْهُومٍ جَدِيدٍ للمَشْرُوعِ الحَضَارِيِّ العَرَبِيِّ.
- أنَّ هذا المَشْرُوعَ يَجِبُ أَنْ يُبْنَى عَلَى إيمَانٍ عَمِيقٍ بِالحُريَّةِ وبالعِلْمِ.
- العَمَلِ الدَؤُوبِ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا المَشْرُوعِ الكَبِير.
وإنَّنِي فِي قَوْلِي هَذَا أُؤَكِدُ أنَّ مَا نَشْهَدُهُ مِنْ فَشَلٍ هُوَ فَشَلٌ فِي المَسِيرةِ الثقَافِيَّةِ العَرَبِيَّة، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَخَطَاهُ، وأَنْ نَسْتَمِدَ مِنْ تُرَاثِ المَاضِي مَا يُقَوِّي عَزِيَمتَنَا لِمُجَابَهَةِ تَحَدِّيَاتِ الحَاضِرِ وِبِنَاءِ المُسْتَقْبَلِ المُشْرِق.
فَلْنَعُدْ لَحْظَةً إلِى التَارِيخِ ... وَلَا أَقْصِدُ التَارِيخَ الحَدِيثَ أَوْ المَاضِي القَرِيبَ حَيْثُ كَانَتْ أَغْلَبُ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ مُسْتَعْمَرَاتٍ لِلْدُوَلِ الغَرْبِيَّةِ المُهَيْمِنَةِ، أَوْ حَتَّى قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ الإمْبِرَاطُورِيَّةُ العُثْمَانِيَّةُ تَضُمُّنَّا جَمِيعًا فِي ثَنَايَاهَا... أُرِيدُ أَنْ أَبْدَأَ مِنْ القُرُونِ الوُسْطَى حِينَ كَانَ العَرَبُ والمُسْلِمُونَ هُمْ قَادَةُ الفِكْرِ العَالَمِيِّ وَحَامِلُو رَايَةِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَة...
وَلَنَا وَقْفَةٌ هُنَا مَعَ الإسْلَامِ السِيَاسِيِّ المُعَاصِر، إذْ إنَّنِي أُعْلِنُ بوضوحٍ مَوْقِفِي في دَعْمِ تَيَّارِ ثَقَافَةِ النهْضَةِ العَربيةِ التي تتضمنُ شيئًا مِنْ التُراثِ الإسلامي، ولكنَّها ترفضُ الفِرقَ والأحزابَ وتَتطلبُ بالتَضَافُرِ مَعَ الفِكْرِ اللِيبْرَالِيِّ التَنْوِيريِّ العَالميِّ، وترفضُ العنصريةَ وتعترفُ أنَّ ليسَ كلُّ عربيٍّ مسلمًا، وليس كلُّ مسلمٍ عربيًا.
دروسُ التاريخ
وإنني أَرَى أنَّ لنَا فِي التاريخِ دروسًا هامةً لا عَلاقةَ بِهَا بِهذَا التَحَجُرِ الفِكْرِيّ والعجزِ الإدراكيّ الذي تَتَسِمُ به العديدُ من مَقُولاتِ الإسلامِ السياسيِّ الُمعَاصرِ، وأَقُولُ فَلنَأخُذْ مِنْ التَارِيخِ أَهَمَّ مَفاهِيمِه، فإنَّ العربَ والمسلمينَ هُمْ الذين رَفَعُوا رايةَ العلمِ والمعرفةِ، منذ أكثرَ من ألفِ عامٍ، حينَ تمرَّدوا على النصِّ الأرسْطِيِّ الموروثِ، وأرسَوْا قواعدَ المنهجِ العلميِّ الحديث، المبنيِّ على التجريبِ والقياسِ، وذلكَ قبلَ ستةِ قرونٍ من ظهورِ جاليليو، الذي أجبرَتْه محاكمُ التفتيشِ في أوروبا على التراجعِ، بينما كانَ العلمُ بأيدي عمالقةٍ مثل ابنِ الهيثم يتقدمُ في العَالمِ العَرَبِيّ الإسلامي...
ولعلَّنا نتذكرُ في هذا الصددِ كلماتِ ابنِ الهيثم التي يقولُ فيها:
"نبتدِئُ في البحثِ باستقراءِ الموجوداتِ، وتصفُّحِ أحوالِ المُبْصِراتِ، ونميِّزُ خواصَّ الجزئياتِ، ونلتقِطُ بالاستقراءِ ما يخصُّ البصرَ في حالِ الإبصارِ، وما هو مطَّرِدٌ لا يتغير، وظاهرٌ لا يشتبه من كيفيةِ الإحساس. ثم نَترقَّى فِي البَحْثِ والمَقَايِيس عَلى التدريجِ والترتيبِ، مع انتقادِ المقدِّماتِ والتحفُّظِ في النتائجِ، ونجعلُ غرضَنا في جميعِ ما نستقرِئُه ونتصفَّحُه، استعمالَ العدلِ لا اتباعَ الهوَى، ونتحرَّى في سائرِ ما نميِّزُه وننتقدُه، طلبَ الحقِّ لا الميلَ مع الآراءِ".
ثم إنَّ مجتمعَ العلمِ والمعرفةِ الذي أقاموهُ طوالَ فتراتِ القرونِ الوُسْطَى كانَ مجتمعَ التسامحِ والانفتاحِ ... فلْنتذَكَّرْ أيضًا كيفَ كانَ أبو العلاءِ المعرِّي، المعاصرُ لابنِ الهيثم، شاعرًا ضريرًا يقيمُ في قريةِ معَرَّة النعمانِ يُطلقُ فكرَه وخيالَه ولسانَه بما يَعُدُّه مجتمعُه خروجًا وزندقةً، ولكنه يظلُّ حُجَّةً في اللغةِ، وإمامًا في الأدبِ، ومرجعًا في فلسفةِ الفكرِ حتى يومِنا هذا، فإذا ما تذكَّرنا بعضَ شواهدِه الجَسُورِ أدركْنا إلى أيِّ حدٍّ كانَتْ حُرِّيتُهُ، وإلى أيِّ حدٍّ كانت سماحةُ المجتمعِ الذي يحتضِنُه ويُعلِي قدرَه رغمَ اختلافِه معهم في الفكرِ.
إنَّ هذا المجتمعَ المنفتحَ المتسامحَ، لا يُفْسِحُ المجالَ للإبداعِ الأدبيِّ والفنيِّ فحسبْ، بل يتسعُ صدرُه للتعبيرِ عن الشكِّ والإيمانِ لهؤلاءِ الذينَ – مثلِ أبي العلاءِ المعرِّي – يُفصحونَ عمَّا في قلوبِهم في رحلتِهم من التساؤلِ إلى اليقينِ، ومن الشكِّ إلى الإيمانِ ... إنَّ هذا المجتمعَ لا يخشَى الغزوَ الثقافيَّ ولا يخافُ ترْكَ الموروثِ والمتعارَفِ ولا يهابُ احتضانَ الجديدِ الغريبِ ... فإليكم كلماتِ ابنِ النفيسِ في القرنِ الثالثَ عَشَر الميلاديِّ ...
"وربما أوجبَ استقصاؤُنا النظرَ عُدولًا عن المشهورِ والمتعارفِ، فمن قَرَعَ سمعَه خلافُ ما عَهِدَه فلا يبادِرْنا بالإنكارِ، فذلكَ طَيْشٌ. فرُبَّ شَنِعٍ حَقٌّ، ومألُوفٍ محمودٍ كاذبٌ. والحقُّ حقٌّ في نفسِه، لا لقولِ الناسِ له".
وأرجو ألاَّ يُفهمَ من قولي هذا أنني ممنْ يقدِّسونَ الماضيَ ولا يعبأونَ بما فيه من أخطاءٍ، بل رَوَيتُ هذه الأمثلةَ للتذكرةِ بجوهرِ رُوحِ الانفتاحِ والتسامحِ التي ليستْ بالدخيلةِ على ثقافتِنا، بلْ هي أصيلةٌ في تراثِنا، وإنني أعترفُ أنَّ كثرةَ تغنِّينا بميراثِنا الحضاريِّ القديمِ، دونَ إدراكٍ حقيقيٍّ لمقوماتِه أدَّى إلى أننا نتصورُ في كثيرٍ من الأحيانِ أن الماضيَ والحفاظَ عليه وتقديسَه هو النموذجُ الذي ينبغي احتذاؤُه في صناعةِ المستقبلِ، وهذا أكثرُ الأوهامِ فتكًا وأشدُّها ضلالًا. صحيحٌ أنه كانَ من الضروريِّ لنا - لكي نمتلكَ الثقةَ في شخصيتِنا القوميةِ ولا ننسحقَ أمامَ الآخرِ، خاصةً في الفتراتِ الاستعماريةِ - أن نستنجدَ بهذا الماضي، ونستمدَّ منه قوةَ المقاومةِ، والثقةَ في الذاتِ، لكننا بعد أن تخطَّينا هذه المرحلةِ، نَضُرُّ بأنفسِنا أفدحَ الضرَرِ عندما نتحولُ إلى عبادةِ الأسلافِ بدلًا مِنِ احْترامِهِم... وفي هذا الصددِ نذكرُ أيضًا مقولةَ ابنِ النفيسِ دعمًا للتجديدِ والمجددين:
"ولنذكرَ قولَهم: إذا تساوتِ الأذهانُ والهِمَمُ، فمتأخِّر كُلِّ صناعةٍ، خَيْرٌ مِن متقدمِها."
السيدات والسادة:
لا يجوزُ أن نديرَ ظهورَنا لحركةِ التاريخِ، ونتصورَ واهمينَ أننا عوالمُ مغلقةٌ على ذاتِها، تعيشُ وحدَها على هذا الكوكبِ، فنُصابُ بداءٍ مدهشٍ من الرضوخِ للصِّبْغةِ المحليةِ والإقليميةِ، نحاولُ أن نخترِعَ العجلةَ في مشكلاتِ الدولِ والثقافةِ، ويكفينا أن ننظرَ حولَنا؛ لنعرفَ كيفَ واجهَ غيرُنا ذلكَ لنتعلمَ ونبنيَ على أُسُسِه.
ومما يجبُ التأكيدُ عليه في هذا المجالِ هو تعليمُ البنتِ وتمكينُ المرأةِ لتلعب دورَها كاملًا في شتى مجالاتِ الحياةِ، فلا تقدُّمَ حقيقيًّا يُحْرَزُ في المجتمعاتِ التي لا تنصفُ المرأةَ ولا تعترفُ بدورِها المحوريِّ الخلاَّقِ.
حولَ العلمِ والإسلام
على أن ذلكَ يرتَبِطُ بداءٍ آخر، هو البعدُ عن الثقافةِ العلميةِ المعاصرةِ التي أصبحتِ المقياسَ الحقيقيَّ لحيويةِ الثقافاتِ. فمنَ المعروفِ أن الفلسفةَ في العصورِ القديمةِ كانت أمَّ المعارفِ وذُروةَ هَرَمِها، وهي التي تمثِّلُ أسسَ الأفكارِ وتُوَجِّه حركةَ الشعوبِ مدنيةً أو عسكريةً، وقد أضحى العلمُ اليومَ هو القطبُ الذي يوجِّهُ حركةَ المعرفةِ ومسيرةَ الحضارةِ، ومن ثَمَّ أصبحتْ سيادةُ التفكيرِ العلميِّ والثقافةِ العلميةِ هي ضمانُ المعرفةِ والتقدمِ، ولا سبيلَ لنا للإسهامِ في تشكيلِ الحضارةِ المعاصرةِ من الدخول في هذا السباقِ العلميِّ، بكلِّ طاقاتِنا الماديةِ والبشريةِ، على جميعِ المستوياتِ الفرديةِ والجماعيةِ.
وثمةَ مشكلةٌ حساسةٌ، آنَ لنا أنْ نواجِهُهَا بشكلٍ حاسمٍ ونهائيٍّ، وهي إقحامُ الدينِ فيما لا عَلاقةَ لهُ بِه، وتحكيمُ رجالِ الدينِ في مُخْتَلِفِ شئونِ الحياةِ، وانفجارِ عصرِ الفتاوَى العشوائيةِ، وسيادةُ الدعاةِ المحترفينَ والمتطوعين.
إن المَيْزةَ الكبرى للإسلامِ هي الاهتمامُ القاطعُ بِشئونِ الدنيا، والاحتكامُ للخبرةِ الإنسانيةِ في إدارَتِها، منذُ حادثةِ تأبيرِ النخلِ الشهيرةِ في التراثِ الإسلاميِّ وكلمةِ الرسولِ (ص) الجامعةِ: "أنتمْ أعلمُ بشئونِ دُنياكم"؛ فلدينا الحريةُ في إدارةِ مجتمعاتِنا اعتمادًا على مصلحةِ الناسِ وحكمِ العقلِ وخبرةِ التاريخِ ونموِّ المعرفةِ العلميةِ، بما في ذلك صياغةُ القوانينِ التي تخدمُ النفعَ العامَّ مُسْتَأْنِسَةً بفهْمِنا للثوابتِ في تراثِنا، مُنْفَتحةً على التطوراتِ الجديدةِ واحتياجاتِها.
وإنني أرَى أنه من الضرورِيِّ ألا نُقحِمَ الدينَ في أمورٍ؛ الرأيُ فيها ليس لعلماءِ الدينِ ولكنْ لأهلِ التخصصِ؛ لأنها أمورٌ لا تتعلَّقُ بالحِلِّ والحُرْمَة، بل بالصوابِ والخطأِ قياسًا على المصلحةِ العامةِ القابلةِ للتغيرِ حسبَ الزمانِ والمكانِ والظروفِ.
وإننا نتعجبُ لهذه الظاهرةِ التي تتجهُ بكلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ إلى علماءِ الدينِ للحصولِ على فتوًى، حتى إذا كانَ الموضوعُ ليسَ موضوعًا دينيًّا، وفي هذه الظاهرةِ تعطيلٌ للعقلِ، فهي تبتغي تحميلَ مسئوليةِ القرارِ – أيًّا كانَ هذا القرارُ - على صاحبِ الفتوَى، بينما عَرَفنا من كِبارِ مفكِّرينا - مثلَ عباس محمود العقاد - أنَّ "التفكيرَ فريضةٌ إسلاميةٌ"، وأن استعمالَ العقلِ واجبٌ على المسلمين.
والوجهُ الآخرُ لهذه الظاهرةِ المُقلقةِ، هو إقحامُ الدينِ في تقييمِ العملِ الفنيِّ، بما في ذلكَ من فرضِ رقابةٍ اجتماعيةٍ شرسةٍ من فئةٍ منغلقةٍ متعصبةٍ على ما يجوزُ للمجتمعِ أن يقرأَه أو يسمعَه أو يراه؛ وذلك لأنها لا ترى رأيًا غير رأيِها، ولا تريدُ التعدديةَ وثراءَها الثقافيَّ في المجتمعِ، ونحنُ لسنَا من أنصارِ مصادرةِ الأفكارِ؛ ليسَ فقط لأنَّ ذلكَ ضدَّ الحريةِ؛ وإنما لأنه يحقِّقُ شهرةً وانتشارًا لأعمالٍ لا تستحقُ ذلك.
ولتنظيمِ مجتمعاتِنا أقولُ:
أقولُ في شأنِ الدينِ ونظمِ الحكمِ، بعدَ أنِ ابتكرتِ الثقافةُ الإنسانيةُ الصيغةَ الديمقراطيةَ المتجددةَ؛ التي هي تحقيقٌ للمبدأِ الإسلاميِّ الأصيلِ: "وأمرُهم شُورى بينَهم"، أقولُ: لا بُدَّ في مجتمعاتِنا العصريةِ، المتعددةِ المكوناتِ، أن نؤكِّدَ على مفهومِ المواطنةِ ومساواةِ المواطنينَ أمامَ القانونِ، رجالًا ونساءً، مسلمينَ وغيرَ مسلمينَ ...
وأقولُ أيضًا: لا شأنَ للدينِ بأمورِ العلمِ؛ بعدَ أن تطورتِ المعارفُ بسياجٍ أخلاقيٍّ يحميها، وإن كانتِ التطبيقاتُ التكنولوجيةُ للمبادئِ العلميةِ في كلِّ المجتمعاتِ تحتاجُ إلى القيمِ الأخلاقيةِ – الدينيةِ والفلسفيةِ – لتوجيهِهَا.
لقد آنَ لنا أنْ نحافظَ على دينِنا بالتمسكِ بروحِه، والتحليّ بخلقِه، والتحررِ من حَرْفِيةِ بعضِ فقهائِه في إدارة شئونِنا الجماعيةِ؛ لنكونَ أقوى وأكثرَ تقدمًا.
حولَ الحُلْمِ العَرِبِي العَظَيم
ثم نأتي إلَى التاريخِ الحَدِيث، حَيْثُ قَامَتِ الإمبراطوريةُ العثمانيةُ حَاملةً لَواءِ الإسْلام، ولكنَّهَا سُرْعَان مَا تَركتِ البحثَ العِلْمِيَّ جَرْيًا وَراءَ المُنَاوَرَاتِ السيَاسِيَّة، وتَأَخَرَ حَالُ العَرَبِ والمسلمينَ فِي الوَقْتِ الذِي انْطَلَقَتْ فِيهِ أُورُوبَا فِي نَهْضَتِهَا وَمَا تَلَاهَا مِنْ ثَورةٍ عِلميةٍ وتُكْنُولُوجِيةٍ، والتي بِدَوْرِهَا تَحْوَلَتْ إلَى هَيْمَنَةٍ غَرِبيةٍ عَلَى أَغْلَبِ بَلادِ العَالَمِ، وتَحَوَّلَتْ نظرَتُها إلى الإمْبرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ باعْتِبَارِهَا "الرجلَ الأُورُوبيَّ المريض" ... وانتَظَرَتْ الفترةَ المناسبةَ لتحطيمِ الدولةِ العثمانيةِ، وجَاءتْ تِلْكَ الفترةُ أثناءَ الحربِ العالميةِ الأُولى، وكانَ العالمُ العربيُّ فريسةَ اتفاقيةِ سايكس – بيكو سنة 1916، أي مُنْذُ قرنٍ تمامًا.
ولكنَّ القَرْنَ التَاسع عَشَر هُو أيضًا قَرْنُ مِيلادِ الحِلمِ العَرَبِيِّ العَظِيم، بما عُرِفَ فِي تَاريخِنَا باسمِ "النهضة".
إِنَّ الحُلْمَ العَرَبِيَّ بَدَأَ فِي القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَر، بِقَلَمِ أَبْنَاءِ الشَّامِ الوَافِدِينَ عَلَى مِصْرَ، مِثْلِ جُرْجِي زَيْدَان، الَّذِي كَانَ مِنْ صُنَّاعِ "النَّهْضَةِ" الَّذِينَ طَرَحُوا المَشْرُوعَ العَرَبِيَّ المَبْنِيَّ عَلَى وَحْدَةِ اللُّغَةِ وَالتُّرَاثِ، بَدِيلًا لِمَشْرُوعِ إِصْلاحِ الدَّوْلَةِ الإسلاميةِ العُثْمَانِيَّةِ، مُؤَكِّدِينَ بِذَلِكَ أَنَّ العُرُوبَةَ وَإِنْ كَانَتْ تَنْبَنِي إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ عَلَى تُرَاثٍ ثَقَافِيٍّ إسلاميٍّ، فَهِيَ أَكْبَرُ وَأَشْمَلُ؛ لأنَّ لَيْسَ كُلُّ عَرَبِيٍّ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ عَرَبِيًّا. وَبَاتتِ الرَّوَابِطُ العَرَبِيَّةُ وَاضِحَةً أَيْضًا فِي مِصْرَ حَيْثُ يَقُولُ أَحْمَد شَوْقِيّ فِي قَصِيدَةِ نَكْبَةِ دِمَشْق:
وَيَجْمَعُنَا إِذَا اِخْتَلفتْ بِلادٌ بَيَانٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَنُطْقُ
وقد جَاءَ تَعْرِيفُ الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ وَحْدَةِ اللُّغَةِ نَافِيًا لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَرَافِضًا للتَّمْيِيزِ، بَلْ مُؤَكَّدًا عَلَى الانْفِتَاحِ الإنسانيِّ وَالدَّعْوَةِ المَفْتُوحَةِ لِكُلِّ مَنْ شَعَرَ بِانْتِمَائِهِ لِهَذِهِ الثَّقَافَةِ أَنْ يُشَارِكَ فِي بِنَاءِ العَالَمِ العَرَبِيِّ المُسْتَقْبَلِيِّ.
ورَفَضَتِ الشُعُوبُ العَرَبيةُ الاستعمارَ الغربيَّ، وناضلتْ مِنْ أَجْلِ الاستقلال، وتَلاقَتْ مَشَاعِرُها، وكانت ثورةُ 1919 في مصرَ مؤكدةً لثوراتِ القَرْنِ التَاسِعَ عشر مثل ثورة أحمد عرابي بمصرَ والمَهْدِي بالسودان.
وَالتَحَمَ خَيْطُ العُرُوبَةِ بِخَيْطِ الفِكْرِ التَّنْوِيرِيِّ، فَجَاءَتْ التَّجْرِبَةُ اللِّيبْرَالِيَّةُ المِصْرِيَّةُ فِي النِّصْفِ الأوَّلِ مِنْ القَرْنِ العِشْرِينَ، قَادَهَا عَمَالِقَةٌ مِثْلَ طَه حُسَيْن وَالعِقَاد، بَيْنَمَا وَجَدْنَا الشعورَ العربيَّ مُمْتَدًّا مِنْ المُحِيطِ إِلَى الخَلِيجِ، والكلُّ يرنو للاستقلالِ ويناضلُ من أجلِه، وَهو ما يُعَبِّرُ عَنْه قولُ أحمد شوقي في مذبحةِ دمشق سنة 1924:
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا
|
وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
|
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ
|
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
|
وَلَكِنَّ الحَرَكَةَ العَرَبِيَّةَ الَّتِي غلَّبَتِ السِّيَاسَةَ عَلَى التَّعْلِيمِ أَخْفَقَتْ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ إِبْرَاهِيم طُوقَان فِي قَصِيدَتِهِ "أَنْتُمْ" حَيْثُ خَاطَبَ - ساخرًا متألمًا- المُلُوكَ وَالزُّعَمَاءَ العَرَبَ فِي سَنَةِ 1936 قَائِلًا:
أَنْتُمْ المُخْلِصُونَ لِلوَطَنِيَّةِ
|
|
أَنْتُمْ الحَامِلُونَ عِبْءَ القَضِيَّةِ
|
أَنْتُمْ العَامِلونَ منْ غَيْرِ قولٍ
|
|
بَارَكَ اللَّهُ فِي الزنودِ القَوِيَّةِ
|
مَا جَحَدْنَا أَفْضَالَكُمْ غَيْرَ
|
|
أَنَّا فِي نُفُوسِنَا أُمْنِيَّةٌ
|
فِي أَيْدِينَا بَقِيَّةٌ مِنْ بِلادٍ
|
|
فَاسْتَرِيحُوا كَيْ لا تَطِيرَ البَقِيَّة
|
وَطَارَتِ البَقِيَّة، وَجَاءَتِ النَّكْبَةُ، وَضَاعَتْ فِلَسْطِينُ.. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هَزِيمَةً عَسْكَرِيَّةً فَحَسْب، بَلْ كَمَا قَالَ قسطنطين زُرَيْق فِي "مَعْنَى النَّكْبَةِ" كَانَتْ مُجَابَهَةً حَضَارِيَّةً مَعَ المُسْتَوْطِنِينَ مِنْ اليَهُودِ وَمِنْ وَرَائِهِم الغَرْبُ، مُجَابَهَةً مَعَ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَة.
وَلَكِنَّنَا لَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ دَرْسِ النَّكْبَةِ المَرِيرِ، واتجهنا الى المناوراتِ السياسيةِ ولم نَلْتَزِمْ بِالاسْتِمْرَارِ قُدُمًا عَلَى طَرِيقِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، فتَعَثَّرَتْ مسيرتُنا، وَالمَشْرُوعُ العَرَبِيُّ الكَبِيرُ الَّذِي عَبَّرَتْ الجَامِعَةُ العَرَبِيَّةُ عَنْ مِيلادِهِ السِّيَاسِيِّ، ووَجَدَ أَقْوَى تَعْبِيرَاتِهِ السِّيَاسِيَّةِ فِي الزَّعَامَةِ النَّاصِرِيَّةِ فِي الخَمْسِينيَّاتِ؛ أُحيطَ فِي الستينيَّات بِضَرَبَاتٍ مِنْ الانْفِصَالِ عَام 1961 إِلَى هَزِيمَةِ عَامِ 1967.
السَّيِّدَاتُ وَالسَّادَةُ
لِمَاذَا نَجَحَتْ الزَعَامةُ النَاصِريةُ فِي تَحْرِيكِ الجَمَاهيرِ العَرَبِيَّة، ولماذا أَخْفَقَتْ؟
لماذا تَعَدَّدَتِ الرُّؤَى السيَّاسِيَّةُ حولَ المَسِيرةِ العَرَبِيَّةِ المُؤْمنةِ بالقَلْبِ الثقَافِيِّ والحَضَارِيِّ العَرَبِيِّ، مِثْل كتاباتِ ساطع الحصري وميشيل عفلق وصلاح البيطار، ثم وُلِدَتْ حركاتٌ سِيَاسِيَّةٌ أخفقتْ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ؟
أظنُ أنَّ هناك عَامِلَيْن تسبَّبَا فِي إخِفاقِ الحركاتِ السياسيةِ - حتى أكبرِها -المُتَمْثِلَةِ في الزعامةِ الناصِريَّةِ في الخَمْسِينياتِ والستِينياتِ.
أولًا: إنَّ الأنظمةَ السيَّاسِيَّةَ العَربيةَ لمْ تُؤمِنْ بِحُريَّةِ التَعْبيرِ والتَعَدُدية، بل اتجهتْ إلى رَفْعِ شِعَاراتٍ هَدَّامَةٍ مثل: "أهلُ الثقةِ وليسَ أهل الكفاءةِ" وفَضَلَّتِ النفاقَ السياسيَّ بَدَلًا مِنْ الصرَاحةِ العلميةِ، فسُرْعَانَ ما ضَعفتْ سَواعِدُ الدولةِ واعتمدتْ على الأجهزةِ الأمنيةِ بدلًا مِنْ المُسَانَدَةِ الشعبِيَّةِ والمُؤَازَرَةِ الدِيُمقْرَاطيَّةِ. وكان عبدُ الناصرِ الوَحِيدَ بَينَ القَادَةِ العَرَبِ الذي اعتَرَفَ بمسئوليَتِهِ فِي الهَزِيمةِ وَأعَادَتْهُ المؤازرةُ الشعبيةُ لسنواتِهِ الأَخِيرة.
ثانيًا: إنَّ المساندةَ الشعبيةَ للمشروعِ العربي الكبيرِ كانتْ نتيجةَ أنْ تَوَافَر فِيهِ ثَلاثةُ أبعادٍ على الأقلِ في ظِلِ الزَعَامةِ الناصِرِيَّةِ، وهي:
- رفضُ الهَيْمَنَةِ الأَجْنَبيةِ.
- التأكيدُ عَلَى مَصْلَحَةِ الفقراءِ والكَادِحِين (وهُمْ غالبيةُ الشعب).
- رسمُ رؤيةٍ مستقبليةٍ للدولةِ ومشروعِها الحضاريِّ تُحَرِّكُ مَشَاعِرَ الشبابِ وأحلامِهِمْ.
ولكنَّ الأنظمةَ العربيةَ كُلَّهَا رفَضَتِ العِلْمَ والنقْدَ الصرِيح، وعَلَّمَتْ ترويضَ المثقفينَ على النفاقِ السياسي، فنجدُ شَاعِرَنَا الكَبِيرَ نِزَار القَبَّاني يقولُ فِي تَأْبِينِ طه حُسَيْن سنة 1973:
أيُّها الأزهريُّ .. يا سارقَ النارِ ويا كاسِرًا حدودَ الثوانِي
عُدْ إلينا .. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ ذهبيٌّ .. ونحنُ عصرٌ ثانِي
سَقَطَ الفكْرُ في النفاقِ السياسيِّ وصارَ الأديبُ كالبهْلَوانِ
يتعاطَى التبخيرَ .. يحترفُ الرَّقْصَ ..ويدْعو بالنصرِ للسلطانِ ..
عُدْ إلينا .. فإنَّ ما يُكْتَبُ اليومَ صغيرُ الرُؤَى .. صغيرُ المعانِي
***
عُدْ إلَينا، يا سيِّدي، عُدْ إلَينا وانْتَشِلْنا من قَبْضةِ الطُّوفَانِ
أنتَ أرضَعْتَنا حليبَ التحدّيَ فَطَحَنَّا النجومَ بالأسنانِ ..
واقتلعنَا جلودَنا بِيَدَيْنَا وفَكَكْنَا حجارةَ الأكوانِ
ورفَضْنَا كلَّ السلاطينِ في الأرضِ رَفَضْنا عبادةَ الأوثانِ
أيُّها الغاضبُ الكبيرُ .. تأمَّلْ كيف صارَ الكُتَّابُ كالخِرْفانِ
قَنِعُوا بالحياةِ شمسًا .. ومرعًى واطمأنّوا للماءِ والغُدْرانِ
إنَّ أقْسَى الأشياءِ للنَفْس ظُلمًا ..قَلَمٌ في يدِ الجبانِ الجبانِ ..
وَبَعْدَ هَزِيمةِ 1967، ثم وفاةِ جَمَال عَبْد الناصر، لم يتمكنْ أيُّ قائدٍ عَرَبِيٍّ أنْ يُجَسِّدَ الحلْمَ العَرَبِيَّ الكبيرَ، حتَّى أنور السادات بَعْدَ حَرْبِ أُكْتُوبر، لم يتمكنْ مِنْ استعادةِ تحريكِ الجماهيرِ العَربيَّةِ مِنَ المحيطِ إلى الخَلِيجِ، بل كانتْ اتفاقيةُ كَامب ديفيد، وَمَا تَلَاها مِنْ نزاعٍ عَرَبِيٍّ كَبِير.
وفي هَذَا الفَرَاغِ السِيَاسِيِّ، أُعِيدَ إحياءُ المشروعِ الإسْلَامِيِّ الكبيرِ الذي استَبْعَدَتْهُ حركةُ "النهضةِ العربيةِ" في نهايةِ القَرْنِ التاسعَ عَشَر، والذي لم تتمكنْ حركةُ الإخوانِ المسلمين المُؤَسَسَةِ سنة 1928 بعدَ أنْ أَلْغَى مصطفى كمال أتاتورك الخلافةَ العثمانيةَ في سنة 1923، مِنْ أنْ تُحْيِيَه قبلَ ذَلِكَ.
وكانَ ذلكَ نتيجةَ الثورةِ الإيرانيةِ سنة 1979، والتي تمكنتْ مِنْ أَنْ تُقَدِّمَ نَفْسَهَا للجماهيرِ عَلَى أنَّهَا رافضةٌ للهَيْمَنَةِ الأجنبيةِ، تهتمُ بالفقراءِ، ولها مشروعُ "الدولةِ الإسلامية".
أما العربُ، فَدَخَلُوا فِي مَرْحَلَةِ "إدارةِ الاقتصاد" دونَ وجودِ رِسَالةٍ حضاريةٍ أو مَشْرُوعٍ سِيَاسِيِّ.
وجاءتْ ظواهرُ الإرهابِ الدوليِّ الجَدِيدِ بصِبْغَتِهِ الإسلاميةِ التكفيريةِ المُتَطَرِّفةِ التي سَاعَدَتْهَا وِكَالةُ المُخابراتِ الأمريكيةِ أصْلًا في أفغانستان لمحاربةِ الغَزْوِ السُوفيتِّي هناك، وتَوَالَتْ الضَرَبَاتُ والاعْتِدَاءَاتُ والحُرُوبُ مِنْ أَفْغَانِسْتَان إلَى غَزْوِ العِرَاق، وزَادَتْ ضراوةُ المُجَابَهَات، ....ومن القاعدةِ إلى دَاعِش يَزْدَادُ الإرهابُ وَحْشَهً، بينما أُحْبِطَتْ الحركةُ الشعبيةُ التي لَمَسْنَاهَا فِي الربيعِ العَرَبِيِّ، وَرَأَيْنَا كيف أنَّ تياراتِ الإسلامِ السياسيِّ تريدُ أنْ تُسَيْطَرَ عَلَى المَوْقِفِ فِي سَاحِةٍ بعدَ سَاحَة إلى أنْ آلَ وضعُ العالَمِ العربِيِّ إلى هَذِهِ المَأْسَاةِ المُعَاصِرَة.
وَهَكَذَا ضَاعَ الحِلْمُ العَرَبِيُّ العَظِيمُ، وآلَتْ الأُمُورُ إلى وَضْعِهَا الكَارِثِيِّ الذي نعيشُهُ ... ولكنَّنا إذَا أَرَدْنَا إقامةَ المشروعِ الحَضَارِيِّ العَرَبِيِّ مرةً أُخْرَى، علَيْنَا أنْ نَعِي الثورةَ العلميةَ والتُكْنُولُوجِيةَ التي غَيَّرتْ العالمَ في العَقْدَينِ الأَخِيرَيْن، والتي ما زَالَتْ تُؤَثِرُ عَلَى العالمِ أَجْمَع ... فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَرسمَ مَسِيرتَنَا دُونَ التعَامُلِ، بل الانْتِفَاعِ مِنْ هذه الثورةِ العِلْمِيَّةِ الجَارِفَة.
إِنَّ الجَامِعَةَ اليَوْمَ أَمَامَهَا تَحَدِّيَاتٌ عَدِيدَةٌ، بَعْضُهَا يَعْكِسُ التَّطَوُّرَ المُجْتَمَعِيَّ وَالتِّكْنُولُوجِيَّ الَّذِي يَفْرِضُ عَلَى جَمِيعِ المُؤَسَّسَاتِ أَنْ تُوَاكِبَهُ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ دَوْرًا إِضَافِيًّا لا يَقِلُّ أَهَمِّيَّةً فَرَضَهُ التَّارِيخُ عَلَى جَامِعَةِ بَيْرُوتَ العَرَبِيَّةِ الَّتِي تَتَمَتَّعُ بِخُصُوصِيَّةٍ جَعَلَتْ مِنْهَا مَحَطَّ الأنظارِ، وَقِبْلَةَ الآمَال.
إِنَّ هَذِهِ الجَامِعَةَ العَرِيقَةَ الَّتِي قارَبَتْ عَلَى الاحتِفالِ بِعِيدِهَا السِّتِّينَ تَقْرِيبًا، كَانَتْ أَوَّلَ مُحَاوَلَةٍ أَضَافَتْ بُعْدًا عَرَبِيًّا عَلَى مُؤَسَّسَةٍ جَامِعِيَّةٍ فِي بَلَدٍ عَرَبِيٍّ. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ لَنَا - نَحْنُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالعُرُوبَةِ - أَنْ نُؤَكِّدَ لِهَذِهِ المُؤَسَّسَةِ كُلَّ مُكَوِّنَاتِ التَّمَيُّزِ وَالنَّجَاحِ وَالاسْتِمْرَارِيَّةِ...وَمَا أَهَمَّ ذَلِكَ النَّجَاحَ وَالاسْتِمْرَارِيَّةَ فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ الخَطِيرَةِ الَّتِي نَعِيشُهَا، وَفي هَذَا المُنْعَطَفِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ عَالَمُنَا العَرَبِيُّ الَّذِي يَتَسَاقَطُ وَيَتَهَادَى حَوْلَنَا فِي الدِّمَاءِ وَالدَّمَارِ.
نظرةٌ إلى المستقبل: ثورةٌ معرفيةٌ جارفة
منذُ اختراعِ الإنترنت وتعميمِ الاستفادةِ به، ونحن نتفقُ جميعًا على أننا نمضي بخُطًى سريعةٍ نحوَ تحقيقِ مجتمعِ المعرفةِ والاقتصادِ القائمِ على التكنولوجيا، وما يحملُه هذا التحولُ من جوانبِ العولمةِ المعروفةِ والمُوثَّقة. وأنا هنا أتحدثُ عن كيفيةِ تفاعُلِنا نحن بني البشرِ مع الآلة، ومع ظاهرةِ الذكاءِ الصناعي، ومع بُنيانِ المعرفة، وأسلوبِ عرضِها سواءٌ كنا أكاديميين أو باحثين أو كنا ننتمى لأسرةٍ عادية، وكيف تحولتْ نوعيةُ الاتصالاتِ بين أفرادِها وبينَ العالمِ البشريِّ والآلة.
إنَّ الثورةَ المعرفيةَ الجديدةَ ستغيرُ حياتَنا وسيكونُ لها تداعياتٌ كبيرةٌ على كيفيةِ تفكيرِنا في عمليةِ التعليمِ ومؤسساتِه من الابتدائيةِ إلى ما بعدَ الجامعية، وعلى كيفيةِ تصميمِنا لمؤسساتِ البحثِ العلمي؛ سواءٌ أكانت في الجامعاتِ أم المؤسساتِ التابعةِ للدولةِ أم القطاعِ الخاص.
وتقعُ أبعادُ هذه الثورةِ المعرفيةِ الجديدةِ في عددٍ من الظواهرِ الخارقة، حَصَرتُها في عشرةِ أبعادٍ[1] يجبُ علينا أن نتفاعلَ مع كلٍ منها إذا أردنا أن نفتحَ المجالَ أمامَ شبابِنا، وأن ينطلقَ عالمُنا العربيُّ إلى الغدِ المشرقِ بعدَ أن تسكتَ المدافع...
أولًا: الذكاءُ الصناعي
تمكَّن العلماءُ في السنواتِ الأخيرةِ من إنجازِ تقدمٍ ثوريٍّ في هذا المَيْدان، وبدأتِ الآلةُ تفوقُ قدراتِ الإنسانِ في شتَّى الميادين، وأن نتمكنَ من التعلمِ الذاتي بدونِ تدخلٍ إنسانيّ، وننتظرَ غدًا باكورةَ التطبيقاتِ الملموسةِ في السياراتِ التي تسيرُ دونَ سائقٍ بشريّ، وغيرُ ذلكَ الكثيرُ والكثير ...
بل إن مؤسسةَ ماكنزي (Mckinsey) الدوليةَ قدَّرتْ أن تداعياتِ هذه الثورةِ الجديدةِ ستكونُ أكبرَ من تداعياتِ الثورةِ الصناعيةِ ثلاثةَ آلافِ مرة!!![2] وعلينا أن نعيدَ تنظيمَ مؤسساتِنا وإداراتِ دولِنا؛ لتأخذَ بهذهِ التطوراتِ الفائقةِ ولا تتأخرَ عن موكبِ التقدمِ العالميّ.
ثانيًا: التئامُ الإنترنت والمحمول
هذه ظاهرةُ العصر، فبعدَ أن تمَّ غزوُ الإنترنت في جميعِ أوجهِ الحياة، دخلَ التليفونُ الجوَّال "المحمول" الساحة، وأصبحتْ خطوطُ المحمولِ تَزيدُ عن تعدادِ سكانِ العالم، وإذا بالمحمولِ يلتحمُ بالإنترنت في المحمولِ الذكيّ smart phone الذي ابتدعَتْه آبل (Apple) عام 2007، والذي يمثلُ المستقبلَ التفاعليَّ للجيلِ الجديد، حيث يوجدُ أكثرُ من ثلاثةِ ملياراتٍ من هذه الأجهزةِ في العالمِ اليوم.
ثالثًا: التواصل الاجتماعي (Social Connectivity)
كيف يتمُّ التعاملُ مع هذهِ الثورةِ الجديدة؟ وكيف يمكنُ حمايةُ قدرٍ من الخصوصية privacy)) مع الاستفادةِ من العَلاقاتِ الاجتماعيةِ الجديدةِ بينَ الشبابِ في الحركاتِ الإرهابية؟ ... كلُّ هذهِ الظواهرِ المتعددةِ المترابطةِ المتغيرةِ تتطلبُ منَّا عمقًا ومرونةً مؤسسيةً في التعاملِ معها.
رابعًا: الكمُّ الهائلُ من المعلومات Big Data))
يجبُ التعاملُ مع حقيقةِ الكمِّ الهائلِ من المعلومات، أو ما عُرِفَ بـ ((Big Data، حيثُ إن هذا هو واقعُنا الجديد، وسيمكِّنُنا من تحليلِ المعاملاتِ الإنسانيةِ بصورةٍ جديدةٍ وأدواتٍ تحليليةٍ جديدة.
خامسًا: البِنية، والحياة، والتنظيم
منذُ فجرِ التاريخ، سواءٌ كانتِ الكتابةُ على لفائفَ أو مجموعاتٍ خطية، سواءٌ كانتْ مخطوطةً باليدِ أو مطبوعة، استندَ تراكمُ المعرفةِ إلى بِنيةٍ محددة، يُسهمُ كلُّ كاتبٍ بمقالٍ أو كتابٍ يمكنُ اعتبارُه وَحدةً معرفية، مع وضعِ الوحداتِ بجانبِ بعضِها البعضِ مثلَ الطوبِ حينَ بناءِ جِدار، وقد أدَّى تجاورُ تلكَ الأعمالِ الفرديةِ التي تمَّ تحليلُها إلى تراكمِ المعرفة، وارتفعَ الصَّرحُ المعرفيُّ قطعةً قطعةً، لَبِنةً لبنةً، أو حجرًا حجرًا ...
وكانت كلُّ قطعةٍ متجمدةً أو "ميتةً"؛ وأعني بذلك أنه بمجردِ نشرِها مرةً واحدةً تبقى كما هي حتى ظهورِ الطبعةِ الثانية.
وقد تغيرَ ذلك كلُّه بفضلِ الإنترنت؛ فأصبحتْ صفحةُ الويب (Webpage) وَحْدةً للمعرفةِ ومرجعيةً للتحليل. وبدلًا من التسلسلِ التقليديِّ للعرض، أصبحنا نتعاملُ الآنَ مع الصفحةِ الرئيسية، ثم روابطِ النصِّ ذي الارتباطاتِ التشعُّبية (Hypertext) إلى وثائقَ أخرى ذاتِ صلة. ومن المتوقعِ أن نشهدَ مزيدًا من السلاسةِ في دمجِ الصورِ الثابتةِ أو الفيديو، والتنقلِ ما بينَ الروابطِ المرجعية. ولا يَخفَى على حضراتِكم أن الصفحةَ على الإنترنت تختلفُ عن الكتابِ أو المقالة؛ بحيثُ إنها متجددةٌ متغيرةٌ مُحَدَّثة "حية"، فإذا قرأتَها اليومَ تجدُها اختلفتْ عمَّا كانت عليهِ بالأمس. ومع هذه الديناميكيةِ الجديدةِ يأتي التخوفُ من السطحيةِ والتشتتِ بقدرِ ما نأتي بهِ من إضافاتٍ إيجابيةٍ هائلة.
إن هيكلَ تنظيمِ وعرضِ المعارفِ يصبحُ نسيجًا كبيرًا مترابطًا ومفعمًا بالحيويةِ من المفاهيمِ والأفكارِ والحقائق؛ وينمو هذا النسيجُ بشكلٍ سريع؛ مما يتطلبُ أساليبَ تفكيرٍ جديدةً للتفاعلِ معها، ولن تكونَ الإضافاتُ المعرفيةُ مثلَ ألواحِ الطوبِ في الجِدار، بل ستكونُ أشبهَ بالتعاملِ مع نهرٍ يتدفقُ بسلاسة.
سادسًا: الصورةُ والنص
لَطالَما كان النصُّ هو الوسيلةَ الأساسيةَ لنقلِ المعلوماتِ على مَرِّ التاريخ. وكان من الصعبِ إنتاجُ الصورِ وإعادةُ إنتاجِها مرةً أخرى، ولكنَّ الأمرَ تغيرَ الآن. فبفضلِ الثورةِ الرقمية، يستطيعُ أيُّ شخصٍ تسجيلَ الصور، سواءٌ الثابتةُ أو الفيديو، وأصبحتْ رسومُ الجرافيك التي يولِّدُها الحاسوب في متناولِ الجميع.
لذلك ننتقلُ من الكتابِ أو المجلةِ التي تعتمدُ على النصِّ إلى عُروضِ الصورِ الرقميةِ الثابتةِ والفيديو، وكذلك الواقعُ الافتراضيُّ ثلاثيُّ الأبعاد. فسوف يصبحُ التفاعلُ أيضًا سمةً من سماتِ عالمِ الواقعِ الافتراضيِّ الجديدِ المعتَمِدِ على الصورة.
سابعًا: التعقيدُ والفوضى
إن العالمَ الذي نعيشُ فيه معقدٌ بدرجةٍ كبيرةٍ سواءٌ في الظواهرِ الإيكولوجية أو البيولوجية، وأصبح ذلك التعقيدُ علمًا مستقلًا Complexity Theory، كما أنه من الصعبِ التنبؤُ بالآثارِ المترتبةِ على عددٍ من الأفعالِ وتداخلِها مع تأثيراتٍ أخرى، وهي أمورٌ عالجَتْها نظرياتٌ علميةٌ عن الفوضى Chaos Theory.
ثامنًا: علومُ الحاسباتِ والبحثُ العلمي
ستصبحُ مفاهيمُ الحاسوبِ وتقنياتُه جزءًا محوريًّا من منهجِ البحثِ العلميِّ الجديد. فمفاهيمُ العلومِ الحاسوبيةِ والأدواتُ والنظرياتُ ستُحاكُ في النسيجِ الأساسي للعلومِ والممارساتِ العلميةِ في شتَّى المجالات.
وإذا نظرنا إلى إدارةِ البيانات، نرى أن البياناتِ حينَ يتمُّ تنظيمُها تصبحُ معلومات، وحين تُشرَحُ المعلوماتُ تصبحُ معرفة، وحين يتم دعمُها بالخبراتِ والرؤى قد تؤدي إلى الحكمة، ولكنَّ هذه قصةٌ أخرى، تحتاجُ إلى مناقشةٍ منفردة.
تاسعًا: التقاربُ والتداخلُ والتحول
تتقاربُ المجالاتُ بالتدريج. فبأبسطِ الكلمات، كان لدينا في يومٍ من الأيامِ علمُ الأحياء Biology)) وعلمُ الكيمياء (Chemistry) كعلمينِ مستقلينِ ومنفصلينِ عن بعضِهما، والآن لدينا علمُ الكيمياءِ الحيوية Bio Chemistry. ولحظاتُ التقاربِ هذِه، التي تتولدُ منها علومٌ جديدةٌ ورُؤًى جديدةٌ هي التي تكونُ أكثرَ اللحظات ثراءً في تطورِ معرفتِنا وفي تطورِ التكنولوجيا الخاصةِ بنا. واليومَ نشهدُ تقاربَ ثلاثةِ مجالاتٍ كانت منفصلةً وبدأتْ تتداخل، ونقصِدُ التكنولوجيا الحيويةَ والمعلوماتيةَ والنانو Bio-Info-Nano Technology (BINT)، ولهذِه الظواهرِ المتكررةِ آثارٌ كبيرةٌ عندَ تنظيمِ العملياتِ التعليميةِ وترتيبِ البرامجِ البحثية.
عاشرًا: منهجيةُ الدراساتِ البينية
إنَّ مشكلاتِ حياتِنا الحقيقيةَ مثلَ الفقرِ والبيئة، كلُّها متعددةُ الأبعادِ ومعقدةٌ وتحتاجُ إلى خبراتِ مجالاتٍ معرفيةٍ متعددة، بينما اعتادتِ المؤسساتُ الجامعيةُ والبحثيةُ عبرَ عشراتِ السنين، إن لم تكنْ قرونًا، أن تؤكدَ على استقلاليةِ التخصصاتِ المختلفةِ في أقسامٍ وكلياتٍ كلٌّ منها يَغارُ على مَيْدانِه؛ مما يؤدي إلى وجودِ صوامعَ للحقولِ المعرفيةِ لا تتفاعلُ بالقدرِ الكافي لدراسةِ مشاكلِ العالمِ الجديدِ وتحدياتِه، ومن ثَمَّ لا تسهمُ بالقدرِ الكافي في صياغةِ السياساتِ المناسبةِ لأوضاعِنا المتغيرة.
أما بعدُ، فهذه هي الوصايا العشرةُ للتعاملِ مع الثورةِ المعرفيةِ المعاصرة، والتي يجبُ أن تؤخذَ بعينِ الاعتبارِ في التفكيرِ في مؤسساتِنا التعليمية – من المرحلةِ الابتدائيةِ إلى المرحلةِ ما بعدَ الجامعية – ومؤسساتِنا البحثية، حكوميةً كانت أو خاصة، والمؤسساتِ المساندةِ للثقافةِ والمعرفةِ مثل: "المكتباتِ، والمتاحفِ، والأرشيفات".
إذا كانَ المستقبلُ العربيُّ مرتبطًا بالضرورةِ بثقافةِ المعرفة، فإنه من الضروريِّ أن يهتمَّ المثقفون العربُ وصناعُ القرارِ في بلادِنا بأبعادِ هذه الثورةِ المعرفيةِ الجارفةِ وتداعياتِها المتنوعة.
إنه من المُلفتِ للنظرِ أن أغلبَ ما يُكتَبُ في العالمِ العربيِّ لا يعطي اهتمامًا كافيًا لهذه التغيراتِ النوعيةِ في وسائلِ التواصلِ مع المعرفة، تلكَ التغيراتِ التي نَحسَبُها كفيلةً بأن تُحدِثَ ثورةً حقيقيةً في كلِّ ما عَهِدناه عالميًّا في القرونِ الثلاثةِ الماضية، وحتى في نهايةِ القرنِ العشرين؛ حيث لاحتْ بداياتُ هذه التغيراتِ على الأفقِ القريب... بل نجدُ الكثيرَ من أبناءِ أمتِنا يرجون الإصلاحَ والتغييرَ في محاكاةِ النماذجِ الغربيةِ الناجحةِ من المؤسساتِ التعليميةِ والبحثية، أو في اتباعِ منهجِ الصينِ في التحديثِ والتصنيع، غيرَ مُبالينَ بأنَّ هذه نماذجُ عصرٍ آخر، وعلينا أن نستعدَّ لتحدياتِ عصرٍ جديد.
وإذا كنا سوفَ ننتقلُ بأنفسِنا وبأمتِنا نحوَ مستقبلٍ أفضل، علينا أن نقدمَ على المشروعِ الحضاريِّ الكبير، فأظنُّ أن ركنًا هامًا من أركانِ هذا التحولِ سوف يكونُ مرتبطًا بكيفيةِ علاجِ مؤسساتِنا التعليميةِ والبحثية؛ بحيثُ تتفاعلُ مع الأبعادِ المختلفةِ لهذهِ الثورةِ المعرفية، وتطوعها بما لها من إمكاناتٍ هائلةٍ وتقنياتٍ مذهلة، وتوظف ذلك من أجلِ تمكينِ جيلِ الشبابِ العربيِّ الصاعد؛ ذلك الجيلُ الذي سيعايشُ الثورةَ المعرفيةَ ويحققُ المشروعَ الحضاريَّ العربيّ ... فما هو هذا المشروعُ الحضاريُّ، وما هي أهمُّ معالمِه؟
مقوماتُ المشروعِ الحضاريِّ العربي
للمشروعِ الحضاريِّ العربيِّ عدةُ مقوماتٍ أوجزُها فيما يأتي:
- الاعترافُ بالتباين.
- البناءُ من أسفلَ إلى أعلى.
- التأكيدُ على سيادةِ القانونِ والمأسَسة.
- الإصلاحُ المؤسسيُّ الشامل: سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا.
- الاعترافُ بالتباين
هناك تبايُناتٌ بينَ الدولِ العربيةِ اقتصاديةٌ عِرقيةٌ وإثنيةٌ وديموغرافية؛ فالعالمُ العربيُّ لا تجمعُه سِوى اللغة. ولكن يمكنُنا أن نستأنسَ بتجربةِ الاتحادِ الأوربي الذي به مِثلُ هذا التباينِ وتنقصُه اللغةُ المشتركة، ولكنه أنجزَ نجاحًا كبيرًا يُحسَبُ له وفي وقتٍ بسيط؛ إذ بدأ عام 1958، بينما أسِّستْ جامعةُ الدول العربية عام 1945.
ب) البناءُ من أسفلَ إلى أعلى
وأقصِدُ بذلك الاستفادةَ مرةً أخرى من التجربةِ الأوروبية؛ حيث كان البَدءُ بمشروعاتٍ محددةٍ وتنسيقٍ مشتركٍ في مجالٍ اقتصاديٍّ محدَّد (الفحم والصلب)؛ لأن مثلَ هذه الاتفاقياتِ تتم بناءً على مصالحَ مشتركة، وتُدِرُّ دخلًا واضحًا لكلِّ الأطرافِ المشاركة. يمكنُ التوسعُ بعدَ ذلكَ في مجالاتٍ أخرى على أن يكونَ دعمُ المزيدِ من التفاعلِ الثقافيِّ دائمًا قائمًا.
- التأكيدُ على سيادةِ القانونِ والمأسسة
عندما نبني من أسفلَ إلى أعلى، وعندما نُفعِّلُ تلكَ الحركةَ الثقافيةَ ونترجمُها إلى واقعٍ جديد، يجبُ البناءُ على أسسِ اتفاقياتٍ قانونيةٍ ملزمةٍ بين الدولِ الأعضاء - مثلما فعلَ الاتحادُ الأوروبي - وبناءِ مؤسساتٍ لها شرعيتُها وقوتُها، وليس بالاعتمادِ على شخصياتِ الزعاماتِ الكاريزمية.
إن الدولةَ الحديثةَ في عالمِنا المعاصرِ هي دولةُ المؤسساتِ والأفرادِ التي يتشاركُ فيها الجميعُ في ظلِّ سيادةِ القانونِ بحيثُ تكونُ العَلاقةُ بينَ الأفرادِ والمؤسساتِ من ناحيةٍ، وعَلاقاتُهم بالحاكمِ من ناحيةٍ أخرى، في بيئةٍ يحكمُها القانونُ ويصونُها القضاء.
وإذا كانتِ المؤسساتُ في هذه الدولِ العربيةِ سوف تشاركُ في تمكينِ المواطنينَ العربِ من صياغةِ هذا المشروعِ الحضاريِّ وتنفيذِه، فإنَّ هناكَ معالمَ واضحةً يجبُ أن تتوافرَ في هذه الدول، أو على الأقلِّ أن تكونَ من الأهدافِ المتفَقِ عليها كجزءٍ من هذا المشروعِ الحضاري، نذكر منها في المجالِ السياسيِّ على سبيلِ التذكرةِ لا الحصر، الموضوعاتِ الآتية:
- المساواةُ بين الأفرادِ أمامَ القانونِ بصرفِ النَّظرِ عن الاختلافِ في اللونِ أو الدينِ أو الجنسِ أو العِرقِ.
- تبنِّي مبدأِ الديمقراطيةِ لسيادةِ رأيِ الأغلبيةِ مع حمايةِ الأقليةِ من طغيانِ الأغلبيةِ، وضمانِ أنَّ شرعيةَ النظامِ الحاكمِ مستمَدةٌ من رضاءِ المحكومين، مع الاعترافِ بأنَّ النُّظمَ الديمقراطيةَ متعددةُ الأشكالِ من الممالكِ الدستوريةِ والجمهورياتِ البرلمانيةِ والنُّظمِ الرئاسيةِ.
- ممارسةُ السلطةِ بشكلٍ يضمنُ تطبيقَ وحكمَ القانون، والالتزامُ بهذا الحقِ وتطبيقُه على الجميعِ.
- تنظيمُ السلطةِ طبقًا لمبدأِ الفصلِ بين السلطاتِ ومشاركةُ قوىَ الشعبِ فيها.
- توافقُ النظامِ السياسيِ في الدولةِ مع دستورِها؛ فالدستورُ هو القانونُ الأولُ للدولةِ، ولا يجوزُ أن تتعارضَ القوانينُ معه، ولا يجوزُ أن تتعارضَ الممارساتُ مع القانونِ. ويجبُ على الدستورِ أن يحميَ حقوقَ الإنسانِ السياسيةِ والمدنيةِ مثل: حريةِ الرأيِ، وحريةِ التجمُّعِ والتظاهرِ، ومساواةِ المواطنينَ أمامَ القانونِ، وحقوقهِ الاقتصاديةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ بما يتفقُ مع ما تمَّ إقرارُه في الفقهِ الدوليِ لحقوقِ الإنسانِ.
- سيادةُ القانونِ في العَلاقاتِ السياسيةِ بما يجعلهُ المرجعَ الأولِ في التحكيمِ بين الفُرَقاءِ السياسيين باختلافِ انتماءاتِهِم وعقائدِهِم دونَ المحاباةِ لطرفٍ سياسيٍ على الآخر.
- استقلاليةُ القضاءِ؛ وهو ما يُعدُّ شرطًا أساسيًّا لقيامِ دولةِ القانون.
ولما كان النظامُ الديمقراطي يرتبطُ بوجودِ مؤسساتٍ قوية، تتمثلُ في الفروعِ الثلاثةِ المعروفةِ من تنفيذيةٍ وتشريعيةٍ وقضائيةٍ، فضلًا عن الصحافةِ والإعلامِ ثم مؤسساتِ المجتمعِ المدنيِ، فلا بُدَّ من مراجعةِ هذه المؤسساتِ لضمانِ أدائها الديمقراطيِ السليمِ، الأمرُ الذي يفرضُ الشفافيةَ التَّامةَ واختيارَ القياداتِ الفاعلةِ، والتحديدَ الزَّمني لفترةِ قيامِهِا بمسئوليتِها، والتطبيقَ الفعليِ لمبدأِ سيادةِ القانون بما لا يعرفُ الاستثناءَ مهما كانتْ مبرراتُ هذا الاستثناءِ ودواعيهِ.
(د) الإصلاحُ المؤسسيُّ الشاملُ:
أولًا: الإصلاحُ السياسيُّ
هناكَ مجموعةٌ من الرُّؤَى المحدَّدةِ لإصلاحِ المجالِ السياسيِ في العالمِ العربيِ. وتتمثلُ هذه الرؤىَ في ثلاثةِ عناوينَ رئيسيةٍ؛ هي:
- الإصلاحُ الدستوريِ والتشريعيِ.
- إصلاحُ المؤسساتِ والهياكلِ السياسيةِ.
وقد فصّلْنا هذه العناوينَ في وثيقةِ الإسكندريةِ الصادرةِ عام 2004. ولكن يمكنُنا أنْ نؤكدَ هنا على أهميةِ أنَّ الإصلاحَ السياسيَ المنشودَ يجبُ أنْ يخطوَ بنا نحوَ الديمقراطيةِ وترسيخِ الدولةِ المدنيةِ والتأكيدِ على مفهومِ المواطَنةِ، حيث كلُّ المواطنينَ سواسيةُ أمامَ القانون، لهم نفسُ الحقوقِ والواجبات، نساءً ورجالًا، مسلمينَ وغيرَ مسلمين.
ثانيًا: الإصلاحُ الاقتصادي
يشملُ الإصلاحُ الاقتصاديُّ كافةَ التشريعاتِ والسياساتِ والإجراءاتِ التي تُسهمُ في تحريرِ الاقتصادِ الوطني، والتسييرِ الكفءِ له وَفْقًا لآلياتِ السوق، بما يمكِّنُه من الانتعاشِ والازدهارِ، وبما يسهلُ تكاملهُ مع الاقتصادياتِ الإقليميةِ، واندماجهِ في الاقتصادِ العالمي – هذا مع مراعاةِ أهميةِ دورِ الدولةِ في تحقيقِ الإطارِ القانوني لهذه السوقِ، ولضمانِ الرقابةِ على مؤسساتِهَا، ولحمايةِ مصلحةِ الفقراءِ والأجيالِ القادمةِ والمستهلكين من عامةِ الشعب، ولصيانةِ المواردِ القوميةِ والبيئةِ المحليةِ والإقليميةِ والعالميةِ.
وفي عالمٍ عربيٍ شابٍ وناهضٍ، لا بُدَّ أن تكونَ عِمالةُ الشبابِ وجَودةُ التعليمِ والخدماتِ الاجتماعيةِ والبرامجِ المساندةِ للمشروعاتِ الصغيرةِ من العناصرِ الأساسيةِ في مفهوم الإصلاحِ وبرامجهِ مع تحديدٍ واضحٍ للأولويات، وتأكيدِ أهميةِ الإطارِ المؤسسي اللازم؛ لتحقيقِ الإصلاحِ الشاملِ بجانبيهِ الاقتصاديِ والاجتماعيِ.
وتبرزُ أهميةُ معالجةِ قضيةِ الفقرِ بأبعادهِ المتعددةِ؛ من التهميشِ الاجتماعي والسياسيِ وضعفِ المشاركةِ وقلةِ فرصِ الارتقاءِ، الأمرُ الذي يَحولُ دونَ الاعتمادِ على النُّموِ الاقتصادي وحدَهُ لحلِّ مشكلةِ الفقرِ.
ويجبُ هنا التأكيدُ على أهميةِ حمايةِ البيئةِ والتفكيرِ الاستراتيجي في مشاكلِ الأمنِ الغذائيِ، والأمنِ المائيِ، ووضعِ التشريعاتِ والنظمِ الإداريةِ لمتابعةِ هذه الموضوعاتِ الجوهريةِ على المدى القريبِ والبعيدِ بالدراسةِ العلميةِ، والتوعيةِ العامةِ، وإلا باتتْ جهودُنَا كلُّها هَباءً.
ثالثًا: الإصلاحُ الاجتماعيُ
يجبُ العملُ على تحقيقِ الاستقرارِ الاجتماعي في المجتمعاتِ العربية، الأمرُ الذي يتطلبُ صياغةَ سياساتٍ فعالةٍ، تضمنُ عدالةَ توزيعِ الثروةِ وعوائدِ الإنتاجِ في مجالاتِهِ المختلفةِ. والقضاءَ على ظاهرةِ التهميشِ الاجتماعي لفئاتٍ عديدةٍ. كما ينبغي تركيزُ الاهتمامِ على قضيةِ تمكينِ المرأةِ ودعمِ مشاركَتِها في تنميةِ المجتمعِ، والعملُ على إزالةِ كلِّ أشكالِ التمييزِ ضِدهَا، تأكيدًا لفاعليةِ مشاركتِهَا السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ. ولا تنفصلُ عن ذلك قضيةُ إدماجِ الشبابِ وتعميقِ انتمائِهم للمجتمعِ، وتقديمِ الحلولِ العاجلةِ لمشكلاتِ عِمالةِ الشبابِ، وتطويرِ الرؤىَ التنموية ِالمتصلةِ بهم.
ومن منطلقِ المواجهةِ الفعالةِ لسلبياتِ الممارساتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ الراهنةِ للدولِ العربيةِ، فإنَّ هناك ضرورةً لصياغةِ عقدٍ اجتماعيٍ جديدٍ بين الدولةِ والمواطنِ في المجتمع العربي. هذا العقدُ من شأنِهِ أنْ يحددَ على وجهٍ قاطعٍ حقوقَ الدولةِ والتزامَاتها إزاءَ المواطنِ، ويُشيرَ إلى واجباتِ المواطن، كما يحددَ بشكلٍ حاسمٍ حقوقَ المواطنِ العربي وكيفيةَ الحفاظِ عليها.
رابعًا: الإصلاحُ الثقافي
إن البُعدَ الثقافيَّ هو أساسٌ وركيزةٌ للمشروعِ الحضاريِّ العربي. ويجبُ التأكيدُ على أهمية:
- ربطِ الثقافةِ العربيةِ وثقافةِ المعرفة: وقد تحدثنا مُطَوّلًا عن الأبعادِ العشرةِ للتفاعلِ مع ثورةِ المعرفةِ الجديدة.
- حريةِ التعبيرِ وضوابطِها: وفي هذا نجدُ لُبَّ المستقبلِ العربيِّ كلِّه.
ولن أدخلَ هنا في قضيةِ حريةِ التعبير، التي هي من أهمِّ المكوناتِ للمشروعِ الحضاريِّ العربيِّ الذى أؤمنُ به، إلا لأنْ أَلفِتَ النظرَ إلى ظاهرةٍ مقلقةٍ طرأتْ على المجتمعاتِ العربيةِ في الآونةِ الأخيرة، فبينما نجدُ الأنظمةَ الحاكمةَ التي كانت في الماضي تصادِرُ حقَّ المفكرينَ والمبدعينَ وتفرِض رَقابةً شرِسَةً على ما يُنتِجُونَ، وتضرِب حِصارًا على ما يُمكِن للشعوب أن تسمعَه أو ترَاه أو تقرأَه – نجدُها الآنَ وقَد أفسَحَتِ المجالَ كثيرًا عمَّا قَبلُ، وأتاحتْ هامشًا من الحريةِ مارسَه أجدادُنا؛ ولكنَّ آباءَنا لم يكونوا لِيحلُمُوا بِه، فإذا بالمجتمعِ نفسِه تضرِبُ فيه تياراتٌ رافضةٌ للجديد، تضيِّقُ دائرةَ المقبول، تحارِبُ كلَّ دخيل، بل ترفضُ كلَّ ما يخالفُ نظرَتَها الخاصةَ للمجتمعِ والتاريخ ...
وتفرِضُ هذه المجموعاتُ حِصارًا جديدًا على المبدعينَ والمفكرينَ والباحثينَ والمجتهدين، وأصبحَ السياقُ العامّ لمجتمعاتِنا أكثرَ تشددًا أمامَ حريةِ الإبداعِ وحركةِ الفنّ والأدبِ، وهي أمورٌ يجب أن تكون بمنأًى عن يدِ الدولةِ ومِقَصِّ الرَّقيب، وهكذا أصبحنا في أَمَسِّ الحاجةِ لِمُجابهةِ هذه التيارات، وللوقوفِ بوضوحٍ إلى جانبِ حريةِ التعبيرِ بصورِه المختلفةِ.
خاتمة
سيداتي سادتي:
إن الأوضاعَ الكارثيةَ التي تمرُّ بها الدولُ العربية وشجونُ الثقافةِ العربيةِ تبعثُ الكثيرينَ على اليأسِ، لكنَّنا عندما نتتبعُ مساراتِ الثقافاتِ الموازيةِ في القاراتِ القديمةِ والجديدةِ؛ في الشرقِ والغربِ، ندركُ أننا لسنا وحدَنا مَنْ يواجهُ هذه الإشكالياتِ، وأنَّ غيرَنا قد سبقَنا في الانتصارِ على صعوباتِ التنميةِ العلميةِ والمعرفية، وأن الأممَ العريقةَ التي استطاعت تطويعَ تراثِها وتدريبَ ثقافتِها على الانفتاحِ والتعدديةِ، وأن تستوعبَ مقتضياتِ ثقافةِ المعرفةِ من نَهَمِ التجديدِ، والالتزامِ بالتطوراتِ المنهجيةِ للعلومِ الطبيعيةِ والإنسانيةِ دونَ تفرقةٍ، ومساءلةِ الموروثِ الثقافي ونقدِه بل نقضِه أحيانًا؛ اعتمادًا على الحجةِ والبرهانِ وتغليبًا للصالحِ العام، والتقيُّدِ بمنظومةِ القيمِ الأخلاقيةِ لعصرِ العلمِ، مع الحفاظِ على المرتكزاتِ الروحيةِ لثقافتِنا القويمةِ في تقديري هي الأممُ التي تضمنُ تأسيسَ مجتمعاتِ المعرفةِ وتأصيلَها في الوعي الجماعيِّ والإرادةِ الكلية.
إنَّ المثقَّفَ بطبيعتِه، يجبُ عليه أن يأخذَ موقفًا ناقدًا تجاهَ مجْتَمَعِه، فليسَ دورُه التأكيدَ على الأيديولوجياتِ السائدةِ، بل مُساءَلتَها؛ فهو عنصرُ التجديدِ الفكريِّ في المجتمعِ. ولكنَّه في الوقتِ نفسِه، حافظُ هُوِيَّةِ هذا المجتمعِ. ومن ثَمَّ عليه التجديدُ مع التأصيلِ، ليضمنَ العودةَ إلى الجذورِ من جهةٍ والانفتاحَ على الجديدِ من جهةٍ أخرى، فكلُّ ثقافةٍ حيةٍ متغيرةٍ متجددةٍ، يجبُ عليها التواصلُ مع ماضيها والانفتاحُ على غيرِها. فيصبحَ التجديدُ معَ التأصيلِ دورَ المثقَّفِ في كُلِّ مجتمعٍ، فإنَّ الجريَ وراءَ الجديدِ دونَ تأصيلٍ، سيؤدِّي إلى التخبِّطِ في الضياعِ، كما أنَّ الانغلاقَ في الماضي ورفضَ الجديدِ الوافدِ، هو استسلامٌ لانتحارٍ بطيءٍ.
سيداتي سادتي،
لا بُدَّ لواقِعِنا الثقافيِّ العامِّ من توطينِ الثقافةِ العلميةِ والنـزوعِ المعرفيِّ الأصيلِ الذي يتوافقُ مع الدعوة ِالحضاريةِ التي رأيناها في نصوصِ العلماءِ العربِ، ويتوافقُ في الوقتِ ذاتِه مع طبيعةِ العصرِ الذي نعيشُ فيه.
ولا يمكنُ للمجتمعِ أن يتجهَ بقوةٍ إلى العلمِ والمعرفةِ، من دونِ الاهتمامِ بالمستقبلِ، ومن ثَمَّ الاهتمامِ بالشبابِ الذينَ هم القوةُ المحرِّكةُ للزمنِ القادمِ. إن الإمكاناتِ الهائلةِ المتوفرةِ في أجيالِ الشبابِ، ينبغي تفعيلُها بأقصى طاقاتِها؛ لضمانِ الدخولِ بالمجتمعِ العربي وبثقافتِه العامةِ إلى أبوابِ المستقبلِ، بعيدًا عن الآفاتِ التي ذكرناها في بداية حديثنا.
ولعلَّ في هذا ما يُكوِّنُ في الوقتِ ذاتِه دعوتَنا للمستقبلِ حيثُ يتعينُ علينا:
- فتحُ المجالِ للشبابِ من أجلِ القيامِ بدورِهم في قيادةِ حركةِ المجتمعاتِ العربيةِ.
- فتحُ الأبوابِ للتعدديةِ والتواصلِ مع التياراتِ العالميةِ.
- الدخولُ في عصرِ الثورةِ العالميةِ المعرفيةِ.
- التأكيدُ على سَعَةِ الصدرِ للتعدديةِ الفكريةِ ولحمايةِ حريةِ التعبير، مهما كان يمثلُ ذلكَ من عبء.
سيداتي سادتي،
إن ثقافتَنا العربيةَ متجددةٌ بلا ريبٍ، وثَّابةٌ بعقولِ أبنائِها، متخلصةٌ من قيودٍ باليةٍ، يريدُ البعضُ فرضَها عليها، محققةٌ لقولِ الشابي:
إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدَر
ولا بُدَّ لليلِ أن يَنْجـلِي ولا بُدَّ للقيدِ أنْ يَنـكسِر
والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
[1] كنت في السنوات الماضية أكتب كثيرًا عن "الأعمدة السبعة" للثورة المعرفية الجديدة، بدأ ذلك بمحاضرة ألقيتها في ال NSF National Science Foundation في أمريكا في سبتمبر 2010. ولكن نظرًا لسرعة التطورات العلمية التي طرأت على الساحة العالمية في السنوات الأخيرة رأيت أن أضيف ثلاثة أبعاد إضافية، تصدرت القائمة، والتي أصبحت "الوصايا العشرة" للتعامل مع الثورة المعرفية الجديدة.
[2] تقرير ما كينزى McKinsey)) عن المؤثرات الدولية ، 2016 .